مراجعاتمعتقدات

الوثنية الجديدة

الأشكال الجديدة لعبادة الإنسان الحديث

تعد الوثنية الجديدة (The New Paganism)، أو الأشكال الجديدة لعبادة الإنسان الحديث، ترجمة بائسة ومتأزمة، لوضعية الإنسان الحالي في ظل الحضارة الغربية المادية، أو لنقل في رحاب عالم ما بعد المسيحية (post-Christian) أو ما بعد الإيمان، ذلك العالم الذي وُلد من رحم سلسلة من الأحداث التاريخية والفكرية، التي لا يسعنا المجال لذكرها في هذا المقام، والتي أثرت في تركيبه وإعادة هيكلته وفق رؤية علمية ميكانيكية، أرخت العنان للعقل الإنساني، ليحدد بلا قيود ولا حدود، مآلات الإنسان المعاصر ، ونسج حياته في ماكينة المادة، التي فصلته عن ذاته، وسحقت كينونته، ليتمظهر إنسانا غريبا عن إنسانيته، إنسانا مُعْرضا عن إله السماء، مقبلا على عبادة آلهة أرضية جديدة، محجوبة بغطاء الحداثة حينا، وستار التقدم التقني حينا آخر، فلحقه إثر هذه النظرة الأرضية الطينية، ضنك المعيشة، وشقوة الروح.

فالخلل الذي يعتري حاضر الانسان الحديث، بكل تمثلاته على واقع الإنسانية، إنما هو عَوَر في التصور الحديث للبنية المعقدة للكيان الإنساني، وخَوَر في فهم ثلاثية الوجود  (المبدأ، الحال، المصير)[1]، التي إن اختل أحد أركانها في أي رؤية، ستهوي بالإنسان إلى حفرة اللايقين، وستفضي به إلى حياة لا روح فيها ولا جدوى، ولما همشت الرؤية الجديدة للفكر الغربي الحديث هذه الثلاثية، ما كان للإنسان إلا أن يبحث عن صور مشوهة لرمزيته الوجودية التي ينفصل بها عن الطبيعة والمادة، غير أن هذه الصور ظلت تدور في محيط الحداثة، ويُركب أجزاءها وفق ما تمليه عليه المقولات المادية، المنكرة لعالم الغيب، من بدائل دهرية تظمئ عطشه أكثر من أن ترويه.

وفي هذه الورقات سأحاول جاهدة-ومن الله التوفيق والسداد- أن أضعكم أمام هذه البدائل، التي تمثل الجانب المظلم والمعتم للحضارة الغربية، والتي أعادت طرح وثنية، تحاكي في جوهرها وثنية العصور القديمة، لكن بروح جديدة، متساوقة مع ما وصلت إليه المدنية الغربية من تقدم تقني وتكنولوجي، بيد أنني قبل أن أبسط الموضوع، سأكشف عن جوانب من تشوه الحضارة الغربية، التي فككت المركب الإنساني (الروح/ الجسد)، الذي ينفرد به عن باقي الموجودات، لتبقي على جسده، فينزوي في الوجود، لا قيمة له، هامشي الدور، يسعى في حدود المادة، غير متجاوز لسقفها.

1ـ المدنية الغربية (محنة حضارة، وحضارة المحنة)

في كتابه أزمة العالم الحديث يقول عبد الواحد يحيى (رينيه جينو) أن: ” العصر الحديث في مجموعه يمثل للعالم، زمان المحنة”[2]، وبما أن المدنية الغربية اليوم هي التي تقود قاطرة العالم، وتدعي أن في العقلانية خلاص الإنسانية، وتحقيق لفردوسها الأرضي، فقد حملت في جوفها محنة حضارة، وصدرت لغيرها حضارة المحنة، هذه المحنة التي انبثقت من واقع التقدم الأفقي، الأحادي البعد، الذي همش في الإنسان ربانيته وأعلى من ماديته وهيج قواه الشهوانية، فصار في كنف هذه المدنية آلة تقودها وتسوسها الرغبات والشهوات.

فبعدما أعلنت هذه الحضارة موت الإله، وجعلت من مبدأ إنكار الغيبيات شعارا لها، كان من لوازم مرحلة ما بعد المسيحية تطهير التفسيرات الحديثة للكون والإنسان، من سائر المواصفات الروحية الإنسانية، أو لنقل اجتثاث التصورات الدينية القائمة على المرجعية الإلهية-التي كانت قوام رؤية الرجل الغربي لعالم ما قبل الحداثة-من جذورها، واستبدالها برؤية علمية ذات مرجعية عقلانية، ليحل العلمي محل الديني، والعقلي محل الإلهي، وهكذا يصبح العقل هو إله العالم الحديث.

ولكي تكتمل أركان  الحداثة الغربية كان من موجباتها  أيضا، كما يقول طه عبد الرحمان  استقلال الإنسان عن كل ذات خارجية، متسلطة كانت أو متدخلة، حتى يدرك رشده، ويجد هديه”[3]، في عالم مادي، معيار التقدم الوحيد فيه هو زيادة المنفعة وتعظيم اللذة لأكبر عدد ممكن من البشر[4]، وربما كان هذا هو خط التقدم الوحيد، الذي نجحت فيه المادية الغربية، يضاف إليه الممارسات العملية للنظريات العلمية  في ميدان التكنولوجيا، التي أغرقت العالم في بحر الاستهلاك المادي، وتَقَدُم كهذا كما يقول رينيه جينو لا يحسد عليه إذ لم يزل في تزايده يأتي على ما عداه، حتى كسا هذه الحضارة ثوبا ماديا صرفا، أحلها مسخا حقيقيا[5]، فظن الحداثة الغربية -بالرؤية الأحادية كما أسلفنا – أن العلم والتقنية هما مقياس التقدم الوحيد، أفضى إلى تأزم الفكر الغربي في قدرته على الإجابة عن إشكال المعنى، ووضعه في هامش الأوليات الوجودية للمدنية الغربية، الجاهلة بالقَدْر الإنساني، وحتى وإن أجابت عن هذا السؤال فإن إجابتها تكون بـ”لا أدري”، وهو جواب ضمنه مالرو في قوله: ” حضارتنا هي الأولى في التاريخ التي إذا طرح السؤال ” ما معنى الحياة؟”، أجابت “لا أعرف””.

فاختيار الموقف اللاأدري في معالجة ” الفحوى الوجودية للإنسان”، كان خيارا لا بديل له في عالم الحداثة الغربية، التي استعاضت في رؤيتها عن التفسيرات الميتافيزيقية بمقولات علمية، حصرت العوالم الإنسانية في عالم الشهادة، الذي لم يلبي للإنسان سوى حاجاته المادية الصرفة، والتي لا تشبع تطلعاته الروحية.

وخلاصة لما جرى ذكره نقول: أن إنكار الإله، ثم إعلان استقلال الإنسان، كانا من الركائز التي وسمت عصر الحداثة، ومهدت الطريق لتبلور فكرة ” الإنسان الإله”، الذي يخضع الطبيعة، ويسيطر عليها، يضاف إلى ذلك عجز هذه الحضارة عن إجاد سبل للإجابة عن سؤال المعنى، اللصيق بالفكر الإنساني، ، نتيجة رؤيتها القاصرة لمفهوم التقدم، الذي لا مكان فيه لارتقاء الروح، وإنما هو تقدم مادي صرف، مرتبط كما يرى روجيه جارودي “بـ “اللانهائي الكمي”، وهي عبارة تعني النظر للحياة من خلال مقولة الكم (السلع، معدلات الإنتاج، معدلات الاستهلاك)، وأن الهدف في الحياة مراكمة الكم إلى ما لا نهاية”[6]، أما الكيف أو اللانهائي الكيفي الذي فيه إحياء وسمو الروح، وتحقيق لحياة المعنى، فلم تبقي عليه حضارة الكم والتكديس، وتركته وراءها، في عالم ما قبل الحداثة.

لكن يبقى السؤال الملح على العقل الإنساني في عصر حضارة المحنة، هل بقي الإنسان سيد الطبيعة ومالكها؟ أم أنه صار عبدا لما كان في وقت مضى خاضعا له؟

2ـ الوثنية الجديدة (أو نحو عبادة جديدة للإنسان الحديث)

بعد النظر في حال الإنسانية البائس في رحاب حضارة المحنة، التي لم تستطع على أي حال رسم مسارات الإنسان الصحيحة في الوجود، سننتقل إلا زيادة بيان وإيضاح للتشوهات الفكرية التي أصابت مجتمع الحداثة، الذي أنتج ذلك الإنسان القلق، الذي يبحث عن عوالم جديدة يطفئ بها لهيب حيرته، ويعيد إلى روحه المتهالكة حياة المعنى، لكن في محيطه الطيني الذي رست عليه الحداثة، بيد أننا قبل أن ننطلق في بيان هذه الأشكال الجديدة من عبادة الإنسان الحديث في ظل الوثنية الجديدة، سنجعل من الحوار الذي دار بين البدائي والمتحضر في رواية عالم جديد شجاع[7]، المنارة التي نهتدي بها في الكشف عن الخلل الذي يعتري الرؤية الغربية الحديثة، حيث استطاع ألدوس هكسلي (1946) بأسلوبه الروائي الذي وصفه لويس ممفورد بالتحليل الثقافي الاجتماعي الثاقب[8]، أن يصور لنا حال عالم اليوم.

الحوار بين البدائية والتحضر:
البدائي: “أنت تعتقد أنه لا يوجد إله”
المتحضر: “كلا، بل يغلب على ظني أن هناك إلها”
البدائي: “إذن، لماذا….”
قاطعه المتحضر: ” ولكنه يتجلى بطرق متنوعة لكل شخص، ففي عصور ما قبل الحداثة تمظهر في الكيان الموضوع في تلك الكتب، أما الآن…”
سأله البدائي: ” وكيف يتمظهر الآن؟”
المتحضر: ” في شكل غائب، كأنه لم يكن هناك منذ البداية”
البدائي: ” إنما هذا خطؤك”
المتحضر (هنا مربط الفرس): ” دعنا نقول إنه، خطأ التحضر، إن الرب لا يتناسب مع الماكينات والتطبيب العلمي والسعادة الكونية، وفي النهاية عليك أن تقوم بالاختيار بينهما، وقد اختارت حضارتنا المَيْكنة والطب والسعادة”.

يضعنا هذا الحوار أمام الرؤية الغربية الحديثة، بكل تجليات على واقع الإنسان الحديث، تلك الرؤية التي فصلت عالم ما قبل الحداثة عن عالم الحداثة، والتي جعلت الإله صورة بدائية تعبر عن ماضي الإنسانية، فالحوار تجسيد  لذلك الصراع المفتعل بين الدين والعلم في مجال التداول الغربي، الذي وضع الحضارة الغربية بين طريقين إما الدين أو العلم[9]، وكأننا أمام نقيضين لا يمكن اجتماعهما في حضارة، اختارت التفكيك والهدم، بدل الجمع والبناء، فما كان لهذا العالم الجديد الشجاع إلا أن يستغني عن الدين، ويستبدله بالعلم والميكنة والطب، وتكون سعادة الإنسانية في حدود ما تقدمه لها الحضارة المادية من وسائل المتعة المتاحة.

وذروة هذه المتعة تجدها في المجتمعات الصناعية التي لا تقوم لها قائمة كما جاء على لسان أحد المتحضرين في رواية عالم جديد شجاع إلا بالانغماس في الملذات إلى أقصى الدرجات المسموح بها، لأن امتداد هذه الحضارة لا يحصل إلا بوجود العديد من الرذائل[10]، فيكون حاصل الإنسانية من حضارة الإنكار –إنكار الإله-متعة مؤقتة، وسعادة متوهمة، تقودها آلة الاقتصاد، فهو وإن سعى ليكون حرا مستقلا عن أي ذات خارجية –كما رأينا-إلا أنه سقط سجين حريته، التي تسيطر عليها رغباته، المحكومة بسوق الاستهلاك.

فإنسان هذه الحضارة لا حاجة له كما ذهب إريك فروم لكي يعي نفسه، لأنه مستغرق باستمرار في الاستهلاك، فهو نظام رغبات وإشباع، يجب أن يعمل كي يُشبع رغباته، وهذه الرغبات بدورها تتلقى التنبيه والتوجيه الدائمين من آلة الاقتصاد[11]، فهو اختلق من حيث لا يدري معبودا جديدا يخضع له ويذعن لأوامره، في حدود عالم الشهادة، حيث قام-إن صح التعبير- بعملية ترشيد للمفاهيم الميتافيزيقية، وأعاد صياغتها في قالب مادي دنيوي محض، وفي هذا الصدد يقول طه عبد الرحمن: ” فليس التغييب، مطلقا أن ننسب إلى العالم المرئي قوى خارقة تخالف قوانين الطبيعة، أو قدرات ساحرة تصادم قواعد العقل من أجل التأثير في أحداثه كما هو شأن التسحير، وإنما على العكس من ذلك، الاغترار بقدرات الإنسان، والتوسل بأسباب العقل في اسناد كمالات العالم الغيبي إلى العالم المرئي بحيث يسد مسده، ويغني عن الرجوع إليه”[12]، غير أن هذه الكمالات التي كانت في القرن التاسع عشر موكولة للعقل، الذي يحكم الآلات ويسيطر عليها، سرعان ما أسندها الإنسان في أشياء كانت من اختراعه وتركيبه.

فالإنسان الذي أراد أن يتأله، عليه أن يتخلى عن إنسانيته، وهكذا، وعلى المدى الطويل يدمر نفسه بالتضحية بها على مذبح الألوهية الحقيقي، أي التقنية، التي سيتنازل لها في نهاية المطاف عن عرشه[13]، وهنا بداية موت الإنسان وانبعاث الأشياء، التي ستكون أوثان تجريدية من صنع إنسان الحداثة، الذي وإن استطاع أن ينسلخ من الدين في رؤيته للعالم، إلا أنه لم يبرح أن ضمن الدين بصيغة جديدة تتماشى مع الحداثة، صيغة عوجاء لم تزد الإنسان إلا اغترابا وقلقا، لذلك  رأى الناقد الأمريكي لويس مومفورد من خلال كتابه أسطورة الآلة، أن إنسان حضارة المحنة، سيصبح سلبيا لا هدف له، حيوان تكيفه الآلة[14]، غريبا مشوها[15]، يحفر قبره بيده بعدما طمر روحه.

فتفكيك المركب، وفصل المتصل في حضارة المحنة، أتيا على الإنسان، الذي لا يمكن أن يحيى حياة أحادية، سطحية، لا روح فيها، ولما كان الدين كما يقول أرلوند توينبي “عنصرا أساسيا في حياة الإنسان، حيث لا يمكن أبدا تجاهله أو كبته في الوقت نفسه لفترة طويلة”([16]). فإن الكبت الذي طال جانب المعنى في الإنسان، طامساً شعوره الديني المتصل بعالم الغيب، سينفجر صورا ممسوخة للدين، مركبة بذلك ما يمكن أن نصطلح عليه الوثنية الجديدة.

وهذه الوثنية الجديدة كما ذهب أستاذ الفلسفة لايتون في جامعة ولاية أوهاي الأمريكية، من خلال كتابه “الدين في العقل الحاضر”، وفي فصل عنونه بـ”عودة الوثنية”، انطرحت في المجتمعات الغربية، لتعيد صدى صنمية ما قبل المسيحية، حيث رأى أن هناك تشابها مشؤوما بين وضع العالم اليوم وحال المجتمع الروماني، ويعزو ذلك إلى مسيرة النصر الذي حققه العلم الطبيعي، والذي أعمى الإنسان عن الخطأ الفكري والفراغ الأخلاقي، الناجمان عن السعي لاستخلاص المبادئ الأخلاقية والرقي الديني من دراسة النظام المادي وحده[17]، وهذا هو ما أوقع الغرب المادي في الوثنية الجديدة.

فالوثنية الجديدة كما بين أريك فروم لا تعني خضوع الإنسان إلى صنم صنعه من خشب أو ذهب أو فضة، وإنما تعني إطفاء الطابع المادي على كل ما هو حي، إنها خضوع الإنسان للأشياء، فأصنام اليوم، هي: جشع المال، الشهوة، الإنتاج، الاستهلاك، الأعمال التجارية، والماركات[18]، وفي تحليل المؤرخ الأمريكي هنري آدمز لـِمـا ستكون عليه المجتمعات المادية، ما يؤكد هذه الصورة الوثنية الجديدة التي أشار إليها فروم، حيث صرح متشائما أن “عبادة (الدينامو) –أي المحركات الآلية- ستكون البديل العصري لعبادة العذراء”[19]، فما كان من صنع الإنسان، صار يدير الإنسان، ويتحكم في رغباته، وبعدما كان مخضعا للطبيعة، ومالكا للآلة، صار خاضعا، عبدا مملوكا، تحت سيادة أوثان حضارة المحنة.

وهذا البديل الديني المشوه، من الوثنية الجديدة، لم يستطع أن يغذي روح الإنسان، الذي بقي يدور في فلك التكنولوجيا والآلة والتقنية، وينمي نفسه في إطارها وعلى ضوء مقولاتها الأرضية، لذلك يرى الكاتب الأمريكي (أ. م فورْسْتِر) في كتابه (توقف الآلة): أن ” كل المجتمعات المتأثرة، بمدنية الغرب، تتبع ” توراة التنمية” كعقيدة، وتدور في دائرة تشبه حلقات ذكر الدراويش، وتقول هذه التوراة “انتجوا أكثر لكي تستهلكوا أكثر، ثم لكي تنتجوا أكثر”[20]، فالإنسان في ظل هذه الصنمية، صار حبيس ما صنع، مقيدا بقيم الوثنية، التي دمرته وهوت به إلى دركات الجحيم، وهكذا أضاع الإنسان العصري كما صرح إريك فروم “أي نظام قيم شاملة، ما خلا قيم الوثنية: قَلِق، مُحْبَط، يائس”[21].

وأسباب هذا الخلل الروحي الذي أصاب الإنسان المادي، هو نتاج تصنيمه للأشياء التي لا يجد فيها جوابا إلا لبعض الأسئلة الموصولة والمربوطة بعالم المادة والطبيعة، أما ما عداهما فلن يجد سوى أجوبة معدومة فارغة، وهنا يقول رينيه دوبو ” هناك عناصر في الموقف الحاضر يمكن إيجاد أجوبة لها في التكنولوجيا، ولكن هناك عناصر أخرى لا يمكن للتكنولوجيا أن تجيب عليها وهي تتعلق إلى حد ما بموضوع نظرتنا الفلسفية الأساسية بالنسبة للإنسان “[22]، أو لنقل نظرتنا إلى مركب هذا الإنسان، الذي فككته حضارة المحنة، وأبقت فيه على عنصر المادة، مسقطة بذلك الإنسان في حياة بلا روح، قائمة على آلية ميكانيكية محضة، لوثت الإنسان، وسممت روحه.

وهكذا تقودنا هذه الوثنية الجديدة، لنتأمل في قول الله جل وعلا: ” أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون” (الجاثية: 23)، فهذه الآية الكريمة، تضعنا أمام ما يمكن أن نصطلح عليه “عبادة الهوى”، التي نجد تمثلاتها في واقع حضارة المحنة، التي كلما استحسنت شيئا، جعلته معبوداها، وإلهها الأعظم، فتنقلب من تأليه الإنسان، إلى تأليه الطبيعة، ثم إلى تأليه الأوثان الجديدة، ولا ندري هل سترسو هذه المدنية على حال؟

وفي الختام أقول أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، أهذه الوثنية المادية الطينية التي زادت الإنسان بؤسا وشقاء، أم عبادة الإله الواحد القهار، التي تعيده إلى فطرته، وترتقي بروحه من مهاوي التردي إلى مدارج الترقي؟!

والله تعالى من وراء القصد


[1] أشار القرآن الكريم في مواضع كثيرة إلى هذه الثلاثية، حيث قال الله تعالى في مبدأ الإنسان (فلسفة خلق): (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ)، وفي مبدأ الحال قول الله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقوله سبحانه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، أما مبدأ المصير فقول الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)
[2] أزمة العالم الحديث، رنييه جينو، ترجمة: أسامة شفيع السيد، مركز نماء، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى (2019م)، ص(37)
[3] بؤس الدهرانية، طه عبد الرحمان، ص(72)
[4]  العالم من منظور غربي، عبد الوهاب المسيري، ص( 80)
[5] أزمة العالم الحديث، رنييه جينو، ص(65)
[6] العالم من منظور غربي، عبد الوهاب المسيري، ص(81)
[7] ينظر: رواية عالم جديد شجاع، ألدوس هكسلي، ترجمة: مروة سامي، عالم الأدب، بيروت-لبنان، (2016م)، ص(310-311)
[8] ينظر: كينونة الإنسان، إريك فروم، ترجمة: محمد حبيب، دار الحوار، دار الحوار، اللاذقية-سوريا، ط 1(2013) ، ص(59)
[9] من إشراق الحضارة الإسلامية العالمة، تلك العلاقة التي تصل الدين بالعلم،  وهذا النص البديع لديفيد برلنسكي فيه بيان لتلك العلاقة بين الدين والعلم في حضارة الإسلام، حيث يقول: ” في قرون ازدهار الإمبراطورية العربية، امتدت على طول أرخبيلات فتوحاتها سلسلة مهيبة من المراصد النجمية المتلألئة كالجواهر. كان للمرصد أهمية كبرى في الحياة الدينية للمسلمين المخلصين. لم تكن-ولم تكن على الإطلاق-تعبيرا عن فضول متبلد. كان المسلمون مطالبين، أكثر من اليهود والمسيحيين، بتنظيم أوقات عباداتهم على نحو دقيق، وعرف الفن الذي اعتنى بهذا الأمر بعلم الميقات”، وبينما تعرف الناس في الغرب المسيحي على الوقت بطريقة اتسمت بقدر كبير من الإهمال، لدرجة أن قدوم عطلة عيد الفصح كان موضع شك. فإن الخلفاء في بغداد قدروا الوقت بواسطة الساعة المائية أو الساعة الرملية، ومع ذلك أمر القرآن بخمس صلوات كل يوم، كما أمرهم أن يمموا وجههم شطر الكعبة أثناء صلواتهم، وهي مهام تتطلب براعة ذهنية عالية، كان التقويم الاسلامي مبني على منازل القمر. لقد كان على الجماعة التي تستعد لاستقبال شهر رمضان، والذي يؤرخ لبداية السنة القمرية، أن ترصد الهلال فور ظهوره في السماء مساء. حيث كان يبعث بالرجال الذي يتمتعون بحدة إبصار استثنائية إلى قمم الجبال البعيدة لرصد ظهور القمر، ومن ذلك تعود أصداء صرخاتهم عبر الوديان متسلسلة إلى بغداد نفسها، وبحلول القرن الثالث عشر ميلادي، أوكلت هذه الترتيبات العلمية لأشخاص محترفين يدعون المؤقتين، وفي الإسلام كما يقول المؤرخ ديفيد كنج: ” خلافا لأي دين آخر، كان أداء مختلف أوجه الشعائر مدعوما بإجراءات علمية”) ينظر: وهم الشيطان، ديفيد بيرلنسكي، ترجمة: عبد الله الشهري، مركز دلائل، المملكة العربية السعودية-الرياض، ط2 (11438هـ)، ص(42-43)، بتصرف يسير
[10] رواية عالم جديد شجاع، ص(314-315)
[11] كينونة الإنسان، إريك فروم، ص(39)
[12]  رأى طه عبد الرحمن أن هذا التغييب يتمظهر في الادعاءات العريضة للإنسان الحديث مثل (السيادة على الطبيعة)، و(كشف أسرار الحياة)، و(امتلاك أسباب القوة التي لا حد لها)، (تحقيق التقدم المفضي إلى سعادة الإنسانية)، روح الدين، طه عبد الرحمان، ص(45)
[13] كينونة الإنسان، إريك فروم، ص(187)، بتصرف يسير
[14] ينظر: إنسانية الإنسان، رينيه دوبو، ص(49)
[15] Myth of the Machine, Lewis Mumford, p(3-14)
[16]  “Religion is an essential element in human life which cannot ever be ignored or repressed for very long time”, ( New directions in theology today, Roger L. Shinn, the Westminster press, Philadelphia-USA, vol (7), p(138)
[17] The New Paganism, John H Dietrich, The Humanist Pulpit Series X V I , p(33-34)
[18] ينظر: كينونة الإنسان، إريك فروم، ص(108-109)، بتصرف
[19]  إنسانية الإنسان، (نقد علمي للحضارة المادية)، رينيه دبو، ترجمة: نبيل الطويل ، ص(53)
[20] إنسانية الإنسان، رينيه دبو ص(229)
[21]  كينونة الإنسان، إريك فروم، ص(109)
[22] إنسانية الإنسان، رينيه دوبو، ص(234).

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى