نقد

الرواية الملتزمة فن أدبي أم وجه آخر للموعظة الدينية؟

الرواية والدرس الأخلاقي

“لايزال المرء في فسحة من أمره ما لم يقل شعرا أو يؤلف كتابا”

فإن كتب، صار محل ريبة، ورشقا للتأويلات، وموضوعا للعتاب والنقد وربما السخرية. ولن يسلم مهما فعل، لأن الذي يكتب واحد، والنص واحد، لكن من يقرأون قد تزايلوا، وتباينوا، وتنوعت أنساقهم الثقافية، واهتماماتهم، وميولاتهم وذائقتهم الفنية والأدبية، وتأويلاتهم، فصار من المستحيل إرضاء كل القراء، وضربا من الخبل توقع كل ردود أفعالهم. ولأجل هذا قال الجاحظ قديما : “ينبغي لمن يكتب كتابا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء” (البيان والتبيين).

فهل هذا يعني أن نطالب الكاتب بأن يأتي نصه موائما لتطلعات القارئ كي لا يستجيش حنقه؟ هل يفترض أن يكون السرد متصالحا مع مزاجه ومبادئه ومسلماته بالقدر الذي يجعله راضيا على تخميناته التي لم تخب أثناء القراءة؟

 ألا يفترض أن يكون النص مزعجا، مستفزا، مباغتا، مبعثرا لكل الفرضيات وكل التخمينات دون التفات إلى حيثيات هذا النزاع؟

 قد فطن بعض المزاولين للأدب، وللرواية “المؤسلمة” على وجه التحديد، لهذا الصراع الكامن المتخفي؛ فتأهب له بـ”اختراع” قرائه. تودد لهم بالموضوع المختار، فأسس بذلك مجتمعا من القراء يصعب عليهم أن ينتقدوا القالب مادام قد أتى بما يتحدث عن الدين، ويناصر القضايا الشرعية: موضوع لا يصادم القيم بل حارس وفي لها، لايتحرج من إصدار الأحكام الأخلاقية المباشرة، سرد ينتهي دائما بنهايات جميلة هادئة لا تصادم نفسية القارئ الباحث عن الهدوء داخل النسق الأدبي “الإسلامي”، “يُسلِم” في آخره كل من وقع على الكتاب، ابتداء من الكاتب وانتهاء بالقارئ، مرورا بكل شخوص القصة. أو يعتلي فيه الفارس الوسيم ذو اللحية السوداء الكثيفة والقميص القصير- في مثالية وكمالية وانفصال عن الواقع، وعلى طريقة الأفلام الهندية- جواده الأصهب كي يحمل أميرته المنتقبة أو المحجبة المغلفة بالقماش وبالكثير من السذاجة والعته والسطحية تحت مسمى العفة والحياء والطهارة.

 لبى رغبات قرائه؛ فنزل عند توقعاتهم، ورتب لهم الأفكار، وبسّط لهم الخطاب حد التسطيح، ولربما استعان على ذلك بلغة رديئة، وأسلوب مباشر لا يكلف فك الشفرات، ولا العصف الذهني والفكري، أو بلهجة محلية تعفيه من استلهام الأفكار في لغة إبداعية تخييلية، مسترضيا، مستميلا القلوب، فحصل بذلك على زخم من المتابعين المصفقين، غافلا عن أن  كثرة القراء لا تعني بالضرورة نجاح المكتوب، متناسيا بأنه بذلك، إنما يسترضي نوعا من القراء؛ أولئك الذين لا يستهويهم التنقيب خلف السطور، ولا إعمال الفكر لأجل الفهم، مذكيا عداوة قارئ متيقظ متوقد لا تفوته الثغرات، ولا يغفل عن التمويهات، ولا يقنعه الأداء البسيط بله يكسبه تعاطفه ورضاه، وبأنه بذلك؛ يغطي بالتصفيق على هناته التوليفية وعيوبه النظمية، منتجا عدوا من نفسه تلافيا للخطر المحدق من العدو الخارجي.

“نحتاج إلى أدب “نقي” لا يصادم الفطرة، ولا يناقض أصول الإسلام الكبرى في فهم الحياة والكون والمجتمع، في أقصى الحالات إلى تمرير خطابات رسالية توظف القيم، وتحاول تغيير المفاهيم المغلوطة، لكن دون نزوع إلى منهجية ديداكتيكية، وإلى أن يصبح الكاتب تعليميا يفرغ موعظة في قالب سردي.  نحتاج أن ننتج أدبا أخلاقيا واعيا، لكن دون إيغال النص في الموعظة، أو الزج به في الدرس الأخلاقي” وصال تقة

إذا كنا نعلم أن الرواية تقترح نماذج من السلوك، وتساهم  في تكوين وعي القارئ، وتشكل أسلوب إدراكه لذاته وللواقع حوله وللوجود برمته، فهل يفترض أن نحصر موضوعاتها في قضايا الدين؟ بل في قضايا الحجاب والنقاب واللحية؟ وهل كل ما تعانيه المرأة في مجتمعاتنا؛ غياب فارس الأحلام، وكل ما عليها فعله، انتظاره واليقين من أنه لابد آت مادامت ملتزمة بزيها الإسلامي، وكأن كل ما يربطها بالحياة، هذا الانتظار، وكل ما يدلل على تدينها، ملابسها الطويلة.

 هل يفترض أن نقارب القضايا الحياتية الشائكة من زاوية ضيقة تختزل كل الحلول فيما يطرحه الروائي على أنه  الحل “الإسلامي” الوحيد؛ فلا يُري القارئ إلا ما يراه، ويلزمه بخطه في تحليله باعتباره طرحا إسلاميا لا يحنف عنه ولا يخالفه إلا مشكوك في تدينه؟

وماذا عن القضايا الفلسفية الكبرى، وعن المدركات الحسية، ومعايير الجمال، والتأصيل للحب، وغيرها من المسائل التي يتطرق لها الروائي الملتزم في سرده؟ ألا يفترض أن يكون على قدر من الثقافة، والاطلاع، والقدرة على التحليل، والوعي قبل الخوض في الحديث عنها وتغليفها بالدين لأجل تبرير وجهة النظر فيها وإلزام القارئ بها؟

 الملتزمون -في الغالب- قد ترسخ في ذهنهم بأن أي كتاب يطلعون عليه لابد أن يحمل بين طياته ما ينالون منه أجر القراءة، وإلا فهو مضيعة للوقت، حتى وصل الحال ببعضهم إلى التشكيك في غائية قراءة المتون العلمية أو حفظها باعتبار أنها ليس مما سيسأل عنه في القبر. فهل هذا يفترض  مماشاة هذه العقلية بحيث تتحول الرواية إلى موعظة؛ فيشبعها الكاتب بكم من التوجيهات والتوصيات كما هو حال بعض الروايات المؤسلمة؟ هل يفترض أن يختار الروائي “الملتزم” موضوعات “رسالية” يوجه بها القارئ إلى ما ينبغي أن يكون؛ دون أن يعبأ بفنية السرد، واللغة، والحبكة، والمعقولية؟ هل الجدية في الطرح تقتضي التسطيح، والتنميط، وتسفيه خيال المتلقي، أو غرق السارد في مثالية مجردة دونكيخوتية منفصلة عن واقع معقد يضيق به وعيه الإشكالي، ويستعصي عليه فهمه وتحليله، فضلا عن تجسيده، وفك رموزه، أو دعوة القارئ في احترافية إلى فعل ذلك؟

نحن لا نخشى الجدية في الطرح، بل مافائدة الرواية إن لم تكن جادة (ونحن لا نضعها هنا في مقابل الرواية الساخرة، فهذه الأخيرة جد في قالب هزلي)، وإنما نخشى الحكي السطحي الذي لا تضمن حبكته الانتظام، والتعليل، والمعقولية. الحكي المتزمت أحادي الرؤية الذي يغفل أن الرواية تفتح غير مشروط، يفترض فيها أن تخاصم الصورة النمطية، فتزعج، وتباغت، وتأتي أحداثها ونهايتها من حيث لا يحتسبها القارئ، فهي تتوجه إلى قارئ ذكي، فضولي، متمرد ،هجومي، “متوحد”، يبحث عمن يسمعه دون أن يتحدث، وأن يعبر عن رؤاه وأحاسيسه دون أن يُرى، ويكره أن يتوجه السرد إلى حسه وعقله بشكل فظ مباشر، ويحب أن يحترم السارد ذكاءه وحضوره وأن يورطه في إكمال ما لم يقله، فيولد السطور، ويستنطق الكلمات، ويعيد إنتاج الرواية بحسه الخاص، فيقترب من السرد ليبتعد عنه ويقترب من ذاته. حكي ينصت فيه الكاتب إلى حرفه، ويكون لديه استعداد ولو جزئي للتخلي عن ذاته في السرد، كي يتسنى له رصد الواقع دون أن يحكم تأويله الشخصي عليه، فيورد معنى؛ ويتركه يؤصل لمعان يستكشفها القارئ، ويلعب بالكلمات وبالذاكرة، ويعصف ذهنه، ويترك له حرية التأويل والحركة داخل النسق الروائي دون وصاية أو حجر.

نحتاج إلى أدب “نقي” لا يصادم الفطرة، ولا يناقض أصول الإسلام الكبرى في فهم الحياة والكون والمجتمع، في أقصى الحالات إلى تمرير خطابات رسالية توظف القيم، وتحاول تغيير المفاهيم المغلوطة، لكن دون نزوع إلى منهجية ديداكتيكية، وإلى أن يصبح الكاتب تعليميا يفرغ موعظة في قالب سردي.

 نحتاج أن ننتج أدبا أخلاقيا واعيا، لكن دون إيغال النص في الموعظة، أو الزج به في الدرس الأخلاقي.

اظهر المزيد

تعليق واحد

  1. السلام عليكم
    مقال مميز زممتاز بأسلوب شائق واضح ومفهوم المبنى والمعنى ،اجل نحن في حاجة إلى
    اداب يحترم فيه عقل الإنسان وتحترم فيه المشاعر والأحاسيس ولا يعني هذا أن نهمل ادوات الكتابة والبلاغة وقواعد اللغة وجمال اللغة من الفاظ زاهية مؤثرة تجعل القارئ يطرب أحيانا وآخرى يحزن وثالثة تشرائب عنقه إلى الأفق ليرى ما وراء الطبيعة أو يظفر ببعض المشاهد الخلابة التي تسحر الألباب نحن في حاجة الى ادب يخترم روح الإسان ويمده باالقوة والبيان ويجعله أنسان له جنان يتألم ويفرح ويحزن وربما يبكي ويضحك نحتاج الى ادب راق يحفز الإنسان على الجود والكرم وأن يكون الإنسان مقداما شجاعا بطلا فالكتابة يجب أن تساير الفطرة فطرة الإنسان تطهر القلب واللسان ولا تفسد القلب بل تسعده وتجعل في أعلى المراتب نحتاج الى أدب نزيه صاف وليسمعنى هذا أنعيش المثليات بل نحن نطهر الروح من الادران والأوساخ كما نطهر الجسد بالماء الطهور أبوبكر معلم المرحلة الإعدادية متقاعد ومؤلف للقصة والمسرح للأطفال وكتابة الخواطر والمقالات الصحفية متطوع سابقا ومشارك أحيانا في الحوارات عبر القنوات الفضائية الجزائر شرقا

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى