أدبقصة

العنقاء

أَمسَكَتْ بَيْنَ رَاحَتَيْنِ مُلْتَهِبَتَيْنِ بِقَمِيصِةِ تَشُمُّهُ شَاهِقَةً بِهَلَعٍ، وَتَضُمُّهُ غَارِقَةً بِوَجَعٍ، غَيْرَ عَابِئَةٍ بِدُمُوعٍ بَلَّلَتهُ هَطَلَتْ مِنَ الْعَيْنَيْنِ مِدْرَارًا، فَحَفَرَتْ فِي الْخَدَّيْنِ لَهَا مَسَارًا، وَعَادَتْ فِي ذَاكِرَةِ الألَمِ تَفْتَحُ صَفَحَاتٍ كَانَتْ تَقْلِبُهَا عَلَى مَضَضٍ، مُؤَمِّلةً بِإشْرَاقِ شَمْسِ ضَمِيرِهِ فِي عُمْرِهِمَا ذَاتَ فَجْرٍ، تُحْيِي قَلْبَا هَدَّهُ الْغَدْرُ وتُنْجِدُ عُمرًا أَكَدَّهُ الْصَبْرُ ونَسَجَتْ فِيهِ عَنَاكِبُ الْقَهْرِ بِيُوتَهَا تَلْتَقِطُ فَرَاشَاتِ الْأمَلِ فَتَمْتَصُّهَا حَدَّ الْمَوْتِ وتُلْقِي بِهَا فِي سِجِلَّاتِ الْخَيْبَاتِ.
مَاذَا سَتَفْعَلُ وَلَمْ يُبْقِ لَهَا أَمَلاً بِحَلٍ، بَلْ صَارَ أَشَدَّ قَسْوَةً وأَكْثَرَ جَفْوَةً بَعْدَ كُلِّ مُوَاجَهةٍ تُعَاتِبُهُ فِيهَا عَنْ زَلَلٍ، حَتَّى بَاتَ كُلَّمَا وَجَدَهَا انْتَشَلَتْ عَنْ أَرْضِهِ دَلِيلَ غَدْرٍ جَدِيدٍ بَادَأهَا الْعِتَابَ مُتَّهِمًا إيّاهَا بِالْخَطَلِ وطَاعِنًا فِكْرَهَا بِالْخَبَلِ، لَا يَسْمَعُ ولَا يُعِيرُ اهْتِمَامًا لِمَنْ تَكَادُ تَسْتَحِيلُ فَي نَظَرِهِ أَدَاةً لا تَعِي ولَا تَتَوَجَّعُ، وهِيَ مُلْقَاةٌ قَيْدَ طَعْنَةٍ تَالِيَةٍ عَلَى زَاوِيَةِ الْمُنَى، تَتَفَكَّرُ بِمَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَهِي إلَيْهِ مُوَاجَهَةٌ جَدِيدَةٌ سِوَى إِمْعَانٍ بِإيلامٍ، وإِنْكِارٍ لِكُلِّ اتِّهَامٍ، ولَعِبٍ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ، يَنْقلُهَا لِصَفِّ الْدِّفَاعِ، مُشْهِرًا فِي وَجْهِهَا سَيْفَ مَكْرِهِ وَمُقِيمًا عَلَيْهَا حَدَّ التَمَادِي بِهَجْرِهِ.

لَنْ تَقْفِزَ فِي وَجْهِهِ كَمَا فَعَلَتْ يَوْمَ عَادَ إلَيْهَا بِأَحْمَرِ الْشَّفَاهِ يُلَوِّثُ يَاقَتَهُ، ويَكْشِفُ بِلَوْنِهِ الْصَّارِخِ طَبْعَ وَمُستَوَى صَاحِبَتِه، فَأَطْرَقَ خَجَلاً لِدَقَائِق قَبْلَ أَنْ يَهبُّ فِيهَا لائِمًا مُؤَنِّبًا ومُحَمِّلاً لَهَا مَسْؤُولِيَّةَ وُقُوعِهِ فِي بَرَاثِنٍ أُخْرَى، وَلَنْ تُعَاتِبَهُ بِهُدُوءٍ مُغَالِبَةً دُمُوعَهَا كَمَا فَعَلَتْ يَوْمَ قَضَتْ لَيْلَتَهَا قَلِقَةً عَلَيْهِ مُنْشَغِلَةً بِتَدْلِيكِ قَدَمِهِ لِألَمٍ يَشْكُوهُ اكْتَشَفَتْ سَبَبَهُ فِي الْصَّبَاحِ حِينَ رَأَتْ أثَرَ كَعْبِ حِذَاءِ شَرِيكَتِهِ فِي الْرَّقْصِ وَقَدْ خَدَشَ حِذَاءَه وَطَبَعَ عَلَامَاتِهِ عَلَيْهِ.

عَادَتْ لِلْقَمِيصِ تَشُمُّهُ مُتَأَوِّهَةً وَتَمْسَحُ بِهِ الْدُّمُوعَ عَنْ خَدَّيْهَا، مُستَعِيدَةً استِنْشَاقَ الرَّائِحَةِ التّي يَحْمِلُ، هِيَ تَعْرِفُ صَاحِبَةَ هَذَا الْعِطْرِ الْرَّخِيصِ، الَّذِي يُبَاعُ عَلَى أَرْصِفَةِ الْأسْوَاقِ الْشَعْبِيَّةِ، وقَدْ لَاحَظَتْ نَظَرَاتِهَا تَتَحَرَّشُ بِهِ فِي أَكْثَرِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ، لَكِنَّهَا لَمْ تَتَخَيَّلْ أَنْ يَنْحَدِرَ هُوَ إلَى حَيْثُ يَصِلُ عِطْرُهَا لِقَمِيصِهِ، وَلَمْ تَعُدْ تَعْرِفُ أَهُوَ هُو، أَهُوَ مَنْ أحَبَّتْهُ واخْتَارَتْهُ رَبّاً لِقَلْبِهَا وَسَيِّدًا فِي عُمْرِهَا.

رُبَّمَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَنْسَحِبَ مُنْذُ الْطَعْنَةِ الأُولَى، لَكِنَّهَا سَمِحَتْ لَهُ بِزَعْمِ الْوَفَاءِ أَنْ يُؤَرْجِحَهَا بَيْنَ غَضَبِهِ وَرِضَاه، حَتَّى فَقَدَتْ قُدْرَتَهَا عَلَى الْفَرَحِ بِهَذَا أوْ الْقَلَقِ مِنْ ذَاكَ، وَهِيَ الْيَوْم أَعْجَزُ حَتَّى عَنْ أَنْ تَعِدَ نَفْسَهَا بِالصِّرَاخِ فِي وَجْهِهِ، ثَوْرَةً لِكَرَامَةٍ هَدَرَتْهَا طَوِيلاً عَلَى عَتَبَاتِ اسْتِرْضَائِهِ، هِيَ لَمْ تَعُدْ تِلْكَ الْعَنْقَاء لِتُبْعَثَ مِنْ كُلِّ مَوْتٍ قَوِيَّةً صَلْبَةً مِنْ جَدِيدٍ، ولِلْطَعْنَةِ فِي صَدْرِهَا الْيَوْمَ مَذَاقٌ آخَرٌ، شَيْءٌ مَا قَدْ تَغَيَّرَ.

حَمَلَتْ الْقَمِيصَ لِتُلْقِيهِ بِهُدُوءٍ فِي حَوْضِ الْغَسِيلِ، فَتَسِيلُ مَعَ الْمِيَاهِ بَقَايَا رَائِحَةِ الْعِطْرِ الْنِسَائِيِ الْعَالِقَةِ بِهِ، والْتَفَتَتْ نَحْوَ الْمِرْآهِ تَلْتَقِطُ عَنْ حَافَتِهَا قَلَمَ أَحْمَرِ الْشَفَاهِ الَّذِي يُفَضِّلُ، تُجَدِّدُ بِهِ تَلْوِينِ شَفَتَيْهَا، وَتَتَوَعَّدُ نَفْسَهَا بِالْعُقُوبَةِ، سَتَجْلِدُهَا بِسِيَاطِ الْوَفَاءِ لَهُ حَتَّى تَصْحُو أوْ تَمُوتُ.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى